مُضطهِد المحبة: + «شاول شاول، لماذا تضطهدني؟... مَن أنت يا سيد؟... أنا يسوع الذي أنت تضطهده» (أع 9: 5،4). ومن هذه اللحظة صار شاول ”بولس“ أسير المحبة. وبدل أن كان ينفث تهديداً وقتلاً لتلاميذ الرب، صار قلبه يذوب محبة ورِقَّة: «ماذا تفعلون؟ تبكون وتَكْسِرون قلبي، لأني مستعدٌّ ليس أن أُربط فقط، بل أن أموت أيضاً في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع» (أع 21: 13). جعلته المحبة يحترق لأجل الآخرين: «مَن يضعف وأنا لا أضعف! مَن يعثُر وأنا لا ألتهب» (2كو 11: 29)! وقد امتزجت به المحبة من نحو اليهود الذين رفضوا المسيح إلى درجة جعلته يشتهي أن يكون محروماً من المسيح وهؤلاء يؤمنون: «أودُّ لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد...» (رو 9: 3). ثم عاد يقول إنه لا شيء يفصله عن المسيح متحدِّياً العالم والشيطان وكل قوة في الأرض وفي السماء حتى المستقبل المجهول: «مَن سيفصلنا عن محبة المسيح. أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عُري أم خطر أم سيف؟!... فإني متيقِّن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا» (رو 8: 35-39). نظر بولس إلى أعماق كل الناس، بل أنفس الناس، فوجدها ميتة إذ كانت عادمة من المحبة. نظر إلى الإيمان، فوجده لا شيء بدون المحبة. ورأى فلسفة الكلام إذا وصلت إلى حكمة الملائكة، فهي بدون المحبة جهالة. وكل نبوَّة ومعرفة الأسرار، هي بدون المحبة كذب ورياء. وكل تضحية حتى إذا بلغت التخلِّي عن جميع الأموال وتقديم الجسد للاحتراق، فهذه أيضاً بدون المحبة لا تنفع شيئاً (1كو 13: 1-3). هذا هو شاول لما ذاق المحبة! أو هذه هي المحبة لما مسَّت شاول! شعلة من نار: هذا أُغسطينوس الذي ركض في ميدان الفساد والمروق عن إلهه حتى كلَّت قدماه! ولما فتح قلبه للنور، انسكب فيه حتى صار شعلة تنير لكل الأجيال! وإذ تطلَّعت عين الساهر قدوس إسرائيل، حنَّت أحشاؤه ونظر إليه والشيطان قائم عن يمينه ليُقاوم. فقال الرب للشيطان: «لينتهرك الرب يا شيطان، لينتهرك الرب... أفليس هذه شعلة مُنتشلة من النار» (زك 3: 2،1). وصار أُغسطينوس قيثارة المحبة. بحث عن المحبة وجدَّ في إثرها حتى وجدها في أعماق الله. أخذ يتعقَّبها في كل الميادين، فوجدها نافعة لكل شيء وبدونها ليس منفعة لشيء! ولما وثق من قوة المحبة وفاعليتها، قال حكمته المشهورة: ”حِبّ واصنع ما شئتَ“! وظل أُغسطينوس يعظ شعبه عن المحبة في عشر عظات متوالية، فلم يملَّ الشعب مما يسمع، ولا هو كَلَّ من الكلام! وقد استهل عظاته بهذا الكلام: [كل مَن سمع كلماتي ووجدها عنده سيفرح بها! فتصير له كنقط الزيت على شعلة تزكيها وتُلهبها! فتنمو عنده وتثبت! وللبعض ستصير لهم هذه الكلمات كالنار لخشب مستعد للوقود! تلمسه فيشتعل، ويستكمل ما كان ينقصه. المحبة فرح لسامعيها، وسلام لِمَن يجدها]!
”جعلتُك أباً لجمهور من المُحبين“:
هذا بولا القديس الذي اضطرمت المحبة في قلبه، فضاق العالم عن أن يسعه، وخرج هائماً على وجهه يطلب وجه الله في البراري والقفار حتى وجده! فارتاحت نفسه: «مَن هذه الطالعة من البرية، مستندة على حبيبها» (نش 8: 5). عاش مع إلهه الذي أحبه كل أيام حياته متغرِّباً عن العالم حتى مات! فصحَّ فيه أيضاً قول صاحب نشيد الأنشاد: «أُحلِّفكُنَّ يا بنات أورشليم: أَلاَّ تيقظن ولا تُنبهن الحبيب حتى يشاء» (نش 8: 4). فلم يستيقظ بولا إلاَّ في العالم الآخر بين أحضان مَن أحبته نفسه، فعاش مئة واثنتي عشرة سنة لحبيبه ولحبيبه وحده، شاهداً بمحبته حتى الموت. وهذا النموذج الصغير الهادئ، دفع من بعده الآلاف من البتوليين: منهم الشباب، ومنهم الشيوخ، ومنهم الأتقياء، ومنهم اللصوص والزواني، ومنهم أبناء الملوك، ومنهم بنات الملوك متخفيات في زيِّ الرجال! وهؤلاء اتَّقدت فيهم نار المحبة، إذ سمعوا خبر المحبين الذين سبقوهم، فتحركت قلوبهم بكلمة أو بعظة أو بيقظة ضمير أو بصوت الحبيب يدعوهم إلى حياة أفضل! فباعوا كل ما عندهم مسرورين، وباعوا العالم راضين، ثم باعوا أنفسهم للحبيب وعاشوا كما عاش أبوهم الأول هائمين في البراري والقفار والجبال الموحشة وشقوق الأرض، مكروبين معتازين من أجل عِظَم محبتهم في الملك المسيح! قالوا لأحدهم: ”إن أباك مات“. فقال: ”صَهْ! إن أبي لا يموت“. وقال أحدهم: ”أنا لا أخاف الله“. فقالوا له: ”إن هذا الكلام صعب يا أبانا“. ففسَّره لهم وقال: ”لأني أحبه «والمحبة... تطرح الخوف إلى خارج» (1يو 4: 18)“. هؤلاء عرفوا المحبة، فعرفوا الله. ولما ذاقوها انفتحت أذهانهم وعرفوا أنه هو الرب، فالتهبت قلوبهم فيهم، وأخذوا ينشدون للحيِّ من صباح حياتهم إلى المساء، وهم يُرتِّلون ترنيمة موسى عبد الله وترنيمة الخروف قائلين: «عظيمة وعجيبة هي أعمالك أيها الرب الإله القادر على كل شيء، عادلة وحق هي طرقك يا ملك القديسين» (رؤ 15: 3). شهود من تحت المذبح: + «رأيت تحت المذبح نفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم... فأُعطوا كل واحد ثياباً بـِيضاً وقيل لهم: أن يستريحوا زماناً يسيراً أيضاً، حتى يَكْمَل العبيد رفقاؤهم وإخوتهم أيضاً العتيدون أن يُقتلوا مثلهم» (رؤ 6: 9-11). من كل شعب ومن كل لسان ومن كل أُمة، كان للمحبة التي انسكبت في قلوب المؤمنين بالمسيح شهودٌ، كان من نصيبهم في الأرض بسبب هذا الحبيب، العذاب والقتل؛ أما نصيبهم في السماء، المكان الأول ”تحت المذبح“. ثلاثون ألفاً بالإسكندرية قُتلوا دفعةً واحدة! ليجلسوا هناك معاً ومع الذين سبقوهم، ينتظرون العتيدين أن يُقتلوا مثلهم! كلَّت فيهم أيدي القاتلين وما فَتَر الحب الذي فيهم قَيْدَ شعرة. ارتفعت ألسنة النيران للتعذيب أمام عيونهم، فأطفأت رهبَتَها نيرانُ الحب المتأجِّجة في قلوبهم. أُمهات أُخذت أطفالهن أمام عيونهن ليُذبحوا أمامهن، فلم يبكين ولم يلطمن ولم يُغشَ عليهن من هول المنظر! بل كُنَّ يُشجِّعن أولادهن حتى يحتملوا، لينالوا محبة الشهادة وأكاليلها. إنها محبة، محبة ليست من هذا الدهر، محبة ليست من لحم ودم! محبة انسكبت في قلوبهن بالروح القدس!!
هذه المحبة كانت تدفع الرجال والنساء، بل وعائلات بأجمعها أن يسيروا على أرجلهم من دمنهور إلى الإسكندرية، لماذا؟
هل ليتنزهوا هناك؟ كلاَّ! هل ليشتروا مطالب ضرورية؟ كلاَّ! هل ليبيعوا ويشتروا ويستغنوا؟ كلاَّ! ولكن لماذا؟ اسمع: لماذا؟ ليستشهدوا!!!
ذهبوا بأنفسهم على أرجلهم، لينالوا فخر الشهادة للمسيح ويرحلوا عن هذا العالم، وهم كانوا في الطريق يترنمون كأنهم ذاهبون إلى العيد!
هذه هي المحبة، وهؤلاء هم المحبون!
مَن ذا الذي لا يشتهي المحبة؟
مَن ذا الذي لا يشتاق ويتحرك قلبه ليكون للحبيب مُحبّاً ومحبوباً!
وإن اشتهيناها كيف نهدأ قبل أن نملكها؟
وإن ملكناها فسوف نغلب بها العالم والموت!
«المحبة قوية كالموت» (نش 8: 6).
[ يا إخوتي، ليس لكلمات وعظي القدرة أن تعمل لتوسيع قلوبكم،
فاطلبوا من الله لكي تحبوا بعضكم بعضاً، وهو يُعطيكم] - القديس أُغسطينوس. +
(1956)