وهكذا فحسب اعتقاد آريوس ، فإن عدم المخلوقية (¢genhsi£ toà qeoà) الفريدة قد حُفظت بالنسبة لله الآب فقط . فالله الآب وحده هو غير المخلوق ، غير المبتدئ الأزلى . وبهذا وضع آريوس خطًا فاصلاً لا بين الله والمخلوقات ، بل بين الله وبين كلمته مع باقى المخلوقات . فالكلمة كمخلوق لا يشابه الآب ، فهو متحول ومتغير بالرغم من أن ألوهيته أصيلة [18] . والفرق بين خط التفكير الآريوسي هذا والخط الأرثوذكسى يكمن في أن هذا الخط الأخير يرسم لنا صورة أعمق وأشمل عن الله ، فالله هو بالتأكيد خالق ، لكنه ليس فقط هذا ، لأنه كائن خارج طاقاته الخلاقة هذه ، فالشيء الآخر الذي يكون في كيان الله هو الطبيعة ، فالله بحسب الخط الأرثوذكسى ، هو طبيعة وإرادة في نفس الوقت . والأولى تفوق الثانية " إن في الله شئ أعلى من مشيئته " [19] فهو معًا كيان وإرادة، وعندما نستخدم الاصطلاحات اللاهوتية اللاحقة فهو جوهر وطاقة ، ونحن هنا بصدد تمييز أساسي وليس أسمى في كيان الله [20] . هذا التميز لم يستطع أن يدركه لا الفلاسفة اليونانيين ولا المدافعين ولا أوريجينوس ولا آريوس .
ويقابل هذين النوعين من الكيان الإلهي : الجوهر ، والإرادة، تميز مماثل ، ففي الجوهر هناك تمايز في الكيان أو بعبارة أكثر دقة ، تمايز الأقانيم الثلاثة التي لها نفس الجوهر الإلهي من الداخل ، ومن ناحية أخرى يوجد في الإرادة تمايز في العلاقات الخالقة أي التى تتكشف لنا من الخارج (أي خارج الجوهر الإلهي). فما يناسب الجوهر الإلهي من الداخل هو الولادة، وما يناسب الجوهر الإلهى من الخارج هو الخلق.
ومن ثم فإن الله هو في نفس الوقت أب وخالق . فبينما الآب هو أب طبيعيًا أي يُحسب الضرورة الطبيعية ، فإنه خالق حسب الإرادة الحرة . وبالتالى كان من الممكن ألاّ يكون خالقًا وبالتالى كان يمكن أن العالم المخلوق لا يوجد بالمرة .
فالخط الفاصل في المسيحية ، وفي اللاهوت الأرثوذكسى هو بين الله والمخلوقات ، هو بين غير المخلوق والمخلوق .
فإن أصل كلمة لوغوس (LÕgoj Ð) هو أمر خاص بالطبيعة أو الجوهر .
لقد " اتخذ الله قرارًا " بشأن المخلوقات التى كانت في وقت ما غير موجود حيث إنها هى نتاج لإرادته ، أما كلمته المولود طبيعيًا من ذاته فلم يجرى بشأنه طبعًا أى تفكير مسبق [21]. فوجود الكلمة لا يرتبط بالخليقة بشكل مباشر فإن كان الكلمة خالقًا كما هو في الحقيقة فهذا لا يرجع إلى أنه استُخدم كأداة ضرورية للخلق ، بل لأن الكلمة هو الصورة غير المتغيرة لله [22]. ومن ناحية أخرى فإن الله لا يحتاج إلى وسيط أو كما يقول أثناسيوس " لأن كلمة الله لم يصر من أجلنا بل بالحرى نحن قد صرنا من أجله . وبه خُلقت كل الأشياء . وليس بسبب ضعفنا نحن كان هو قويًا وصائرًا من الآب وحده . لكي يخلقنا بواسطته كأداة ! حاشا ! فالأمر ليس كذلك . لأنه حتى لو لم يستحسن الله أن يخلق المخلوقات . فالكلمة مع ذلك كان عند الله وكان الآب فيه وفي نفس الوقت كان من المستحيل أن تكون المخلوقات بغير الكلمة لأنها قد صارت به " [23].
فالكلمة إذن ، وهو قد أتى (من الآب) بهذه الطريقة فمن المستحيل أن يتطابق مع الخليقة بل تفصله عن الخليقة نفس الهوة التى تفصل بين الآب والخليقة . فالكلمة مع أنه حاضر في الخليقة إلاّ أن ذلك بحسب طاقاته فقط ، وهو يحفظ الخليقة بقدرته هذه حتى لا تعود إلى العدم [24]. أما بحسب جوهره فهو خارج الخليقة ويرتفع عنها [25].
فالكلمة المولود من الآب ، وغير المخلوق، يتمتع بكل الخصائص الطبيعية لغير المبتدئ، لغير المتغير ، لغير المائت ، لغير الفانى . إنه أيضًا من نفس الجوهر الواحد معه (ÐmooÚsioj). وبالتالى فليس من الممكن أن يوجد أكثر من جوهر واحد غير مخلوق ، بمعنى أنه لا يمكن أن توجد جواهر عديدة غير مخلوقة . فالجوهر غير المخلوق هو واحد .
وبحسب إحدى البديهيات الأساسية للفلسفة اليونانية ، فالتعدد في الكيان (الجوهر) يعنى الارتباط بالزمن كما يعنى التغير ، بينما الوحدانية تعنى الأزلية وعدم التغير (والثبات) . فكون أن الروح القدس هو فريد فهو لا يحسب ضمن قائمة الموجودات المتشابهة . فعدم وجود أرواح كثيرة مقدسة ، يدل على أنه (الروح القدس) غير مخلوق وبالتالى فهو من نفس جوهر الآب ، كما أن الابن هو أيضًا بالطبع كذلك [26] .
لقد حوّل القديس أثناسيوس بتعاليمه عن غير المخلوق (غير الصائر¢gšnhtoj)، والمخلوق (الصائر genhtÒj) كل الخط اللاهوتى المسيحي في القرن الرابع من الحديث عن صيرورة الابن إلى الحديث عن ولادة الابن ، ونفس هذا يسرى بالنسبة للروح القدس فطالما أن الخليقة هي خارجة بالنسبة لله ذاته لذلك تستخدم اصطلاحات غير المولود ¢gšnnhtoj والمولود genhtÒj لوصف العلاقة الثالوثية أي تستخدم الآن نفس الكلمات السابقة مع كتابتها بحرفين (n) بدلاً من (n) واحدة ، وبالطبع تختلف في المعنى. وتجدر الإشارة حول أن هاتين الكلمتين " مولود " (genhtÒj) ، " غير مولود " (¢gšnnhtoj) . نسج القائلين بعدم المشابهة ('AnÒmoioi) كل نظريتهم ، فلقد تبنوا هذين الاصطلاحين لكي يخرجوا من المأزق ، وذلك بتفسيرهما بطريقة محرّفة . فحسب وجهة نظرهم توجد بين هذين المصطلحين هوة كبيرة بسبب حرف(a) [الذي يعنى (غير) ] وبالتالى فهاتين الكلمتين تصفان شخصين ينتميان لعالمين مختلفين تمامًا . الأول ينتمى إلى العالم الأزلى غير المتغير، طالما أن وجوده لم يتطلب ميلادًا ولا تغيرًا ، والثانى ينتمى إلى العالم الزمنى والمتغير . فطالما أن وجوده تطلب عملية الولادة ، يقول أفنوميوس: " إن كان غير مولود فهو ليس ابنًا، وإن كان ابنًا فهو ليس غير مولود " [27].
فحسب تعاليم أفنوميوس ، فإن كان الكلمة (Ð LÑgoj) غير مولود فلا يمكن أن يكون ابنًا ، وإن كان ابنًا فلا يمكن أن يكون غير مولود ، وطالما أنه ابن فهو إذن بالضرورة مولود وبالتالي فإنه متحول ومتغير .
ومن الممكن القول أن المنادين بعدم التشابه ('AnÒmoioi) يعودون إلى التعاليم الأساسية لآريوس مستخدمين اصطلاحات مختلفة . أي أنهم يستخدمون مصطلح " غير المولود " ، بمعنى "غير الصائر" و " غير المخلوق " ، ومصطلح " مولود " بمعنى " صائر " و " مخلوق ". وبالتالى فإن تغيير المنادين بعدم التشابه للتعبيرات ـ الأمر الذي فرضته عليهم أسانيد القديس أثناسيوس ضد أن الابن مخلوق ـ لم يغير فى الواقع شيئًا من أفكار الآريوسيين.
لم يحدث نفس الأمر بالنسبة للآريوسيين المعتدلين الذين أظهروا تعاطفًا شديدًا ليس فقط لهذه الاصطلاحات الجديدة بل أيضًا لمعانيها الدقيقة .
فقد شدد المجمع المنعقد في أنكيرا سنة 358 برئاسة أسقف أنكيرا باسيليوس وبكل وضوح على التمييز بين " غير الصائر " (¢gšnhtoj) ، باعتباره " غير مخلوق " لكنه "خالق"، وبين " غير المولود " (¢gšnnhtoj)، باعتباره " غير مولود "، لكنه " والد".
" فالخالق والخليقة شئ ، والآب والابن شئ آخر " [28]. ونجد في هذا التعبير كيفية الوجود الإلهي : حسب الإرادة والتى بها يخلق ولهذا فهو خالق ، وحسب الجوهر والتى بها يلد الآب الابن حسب الطبيعة ولهذا فهو آب ..
وهكذا بالنسبة لهم فالتغيير في المصطلحات يتطابق مع خط أثناسيوس اللاهوتى .
غير أن هذا التطابق لم يشمل إلاّ نصف الأمر ، فلو كانوا أنصاف الآريوسيين قد كفوا عن استخدام معنى ومصطلح " مخلوق " بالنسبة للابن ، إلاّ أنهم لم يكفوا عن استخدامه بالنسبة للروح معتبرين إياه بأنه غير مساوٍ في الجوهر [29]. وأنه " مخلوق ملائكى " [30] . فقد كانت تعاليمهم عن أقنوم الروح مثل تعاليم الآريوسيين المتشددين عن أقنوم الابن .
ولقد تمسك القديس أثناسيوس بخط واحد بالنسبة للأقانيم الثلاثة ، ولذا واجه بحدة تلك التعاليم السابق ذكرها عن الروح القدس. فلم يكن ممكنًا له أن يقبل وبأى شكل أو حتى مجرد الإشارة إلى أن الروح (القدس) مخلوق ، بل إنه أصر على أن الروح منبثق من جوهر الله .
وطالما أنه ـ مثله مثل الابن ـ يصدر من الجوهر الإلهى فالروح القدس إذن غير مخلوق . ورغم أن أثناسيوس لم يستخدم الكلمات " مولود " أو " ولادة " بالنسبة للروح القدس إلاّ أنه ينسب إليه معنى الولادة . كما أنه هو أمر حقيقي أن القديس أثناسيوس لم يلقب صراحة أو بشكل مباشر الروح القدس بأنه واحد مع الآب في الجوهر أو أنه هو الله . غير أننا هنا بصدد تحفظ ، سببه رغبة القديس أثناسيوس في تجنب أسباب صراعات لاهوتية أخرى جديدة وسعيه لإيجاد طرق تقارب بينه وبين الآريوسيين المعتدلين ..
لكن على كل حال فإن ما علّم به أثناسيوس عن الروح القدس يشمل كل أبعاد الدفاع عن ألوهيته . فإن كان هو (الروح القدس) فريد في كيانه ومتحد بالآب فإنه بغير شك هو إله . وإن كان هو غير مخلوق فهو بالحقيقة الله . فالقول بأن الروح غير مخلوق يُجمل كل ما نريد أن نقوله عنه ، لأن كل ما هو غير مخلوق هو حتمًا الله .
وبالعكس فإن كل كائن أو كل ما يدعى " إلهًا " ليس بالضرورة غير مخلوق لأن الكلمة "إله " تستخدم أيضًا للدلالة على الشركة فى الألوهة [31] . وكانت تستخدم حينذاك للدلالة على الآلهة الكاذبة أو على الآلهة التي صنعها البشر وبالتالى فمن الأكرم أن ندعو الروح القدس بأنه غير مخلوق من أن ندعوه إلهًا .
إن براهين أثناسيوس هذه ترتبط من ناحية بتعاليمه عن الثالوث ، ومن ناحية أخرى بالخبرة الروحية للمسيحيين ..,
فمنذ نشأة المسيحية وهى تعتمد على الإيمان بالأقانيم الإلهية الثلاثة ، ويمكن القول بأن الثالوث كان هو رؤية المسيحية الأكيدة عن الله . فلا توجد مسيحية بالمرة بدون الإيمان بالثالوث .
فنلاحظ أنه منذ ذلك الحين جرت محاولات لفهم أقانيم الثالوث، لكن في القرن الرابع عندما هُزمت بالكلية تعاليم سابيليوس والمونارخيا التي ألغت وجود الأقانيم الثلاثة ، نجد أن اللاهوتيين المسيحيين بصفة عامة قد كتبوا بوضوح عن عقيدة الثالوث ، وقد تمثل بهم في عملهم هذا معاصروهم من الأفلاطونيين الجدد .
وحينما يعتمد التعليم عن الثالوث على التعليم عن المسيح الذي يركز على خضوع الابن للآب والذي هو أساس التعاليم الآريوسية . فإن فكرة الخضوع هذه تشوه التعليم الصحيح عن الثالوث، غير أن أثناسيوس، وبالرغم من أنه لم يهجر استخدام هذا المصطلح (LÕgoj Ð) بل نجده يستخدمه بكثرة في كتاباته وخصوصًا في كتاباته الدفاعية عن مجمع نيقية ، فإنه استبعد فكرة خضوع الكلمة (LÕgoj Ð) للآب وبالتالى كان تعليمه عن الثالوث هو تعليمًا مستقيمًا وهو يرفض تطابق الأقانيم الإلهية الثلاثة لكنه يقبل تطابق جوهر أو طبيعة هذه الأقانيم . فكل أقنوم بكونه غير مخلوق ، يملك الطبيعة الإلهية بكاملها . أو الجوهر الإلهي كاملاً ولهذا فهو الله .
ومن الناحية الأخرى فإن أثناسيوس يرفض أيضًا انفصال الأقانيم . فالثالوث ليس غير متماثل وليس هو من طبائع مختلفة بل هو طبيعة واحدة [32] . فالثالوث يتكون من أقانيم غير مخلوقة ومتماثلة في الطبيعة والجوهر . وليس من الممكن فصل الأقانيم عن بعضها ، ولا يمكن أن نقبل ألوهية الآب وفي نفس الوقت نعتبر أن الابن والروح هما من المخلوقات ولا أن نقبل ألوهية الآب والابن ونعتبر أن الروح القدس من المخلوقات . فلا يمكن أن يختلط بجوهر الثالوث أي شئ آخر غريب أو خارجى [33] .
فلو كان الكلمة والروح من المخلوقات لكانا خاضعين للزمن وبالتالى ستكون لهما بداية . ولو لم يكونا أزليين لصار الثالوث معتمدًا على الزمن ولكان الثالوث هو ثالوث تدبيرى فقط [34] فالتدبير الإلهى هو ثمرة للثالوث . فالخلاص وتجديد الخليقة بصفة عامة وكل شخص على حده ، هو نتيجة للعمل المشترك للثالوث ، ولكنه أيضًا هو عمل كل من الأقانيم الثلاثة على حده .
فلو لم يكن الكلمة هو الله فكيف كان يمكن للإنسان أن يتأله لو افترضنا أن الطبيعة البشرية ـ في التجسد ـ ارتبطت بشيء مخلوق وليس بالله ؟ ولو كان ذلك الذي اتخذ جسدًا بشريًا ليس هو ابن بالطبيعة ، فكيف يمكن أن يقترب الإنسان من الآب ؟ [35] . ولو كان الروح القدس مخلوقًا وليس هو الله فكيف يمكن لنا أن نصير من خلال الشركة معه شركاء الطبيعة الإلهية ؟ [36]
فالمعمودية التى تتم ليس باسم الآب فقط بل أيضًا باسم الابن والروح القدس ، لن تكون لها أية قيمة إن كانت تتم باسم المخلوقات ، فالعبد لا يمكن أن يُخلّص العبيد نظرائه . فتقديم الكرامة والاحترام إلى المخلوقات يمثل عبادة لها ، عبادة أوثان حقيقية .
فيمكننا أن نرى أن هذه النتائج العملية للتعاليم الآريوسية من جهة التدبير الإلهى وخلاص الإنسان ، هي التى دفعت القديس أثناسيوس أكثر من أى دافع آخر أن يواجه الآريوسية بأسلوب حاد اتخذ شكلاً هجوميًا في أحيان كثيرة وذلك بسبب حرصه الشديد وغيرته على بنيان كنيسة الله وخلاص المؤمنين .